الاندماج والمشاركة
يعيش الكثير من المهاجرين الجدد في السويد ما بين موطنهم الجديد ووطنهم البعيد، وهم يسعون لبناء جسور جديدة تشق عليهم أحياناً، و لكنها توصلهم في نهاية المطاف إلى بر الحياة الأمنة والمستقرة. ولكن لماذا يختار العديد السويد للعمل والدراسة أو الهجرة و اللجوء؟ وماهي العوامل الإيجابية والسلبية التي تؤثر في اندماجهم في مجتمعهم الجديد؟
منذ مطلع الستينيات، كانت السويد سباقة في إستقطاب الكوادر العلمية والمهنية للدراسة والعمل، بذات الوقت الذي فتحت فيه ابوابها لتوفير الحماية لمئات الآلاف من اللاجئين من شتى بقاع العالم، وباختلاط السويديون بالمجتمع الدولي ازدادت الهجرة من قبل ذوي المقيمين في السويد سوأً كانوا أزواجاً أو شركاءً أو أفراد عائلة.
وتوالت منذ إذن وفود المهاجرين لتغير من نسيج المجتمع السويدي ليصبح مجتمعاً يتسم بإختلاط الثقافات والشعوب. وشهدت السويد عبر العقود الماضية اكبر توافد للمهاجرين من منطقة البلطيق، وأمريكا الجنوبية، وإيران، ويوغوسلافيا السابقة حتى منتصف التسعينيات. وخلال العقدين الماضيين، إزدادت أعداد المهاجرين من المنطقة العربية ومنطقة القرن الأفريقي بشكل ملحوظ. ويستمرعدد المهاجرين إلى السويد بالإزدياد ليصل ولأول مرة إلى ما يزيد عن 100,000 للسنة الوحدة في العامين 2008 و 2009 على التوالي.
و تختلف العوامل التي تجذب المهاجرين إلى السويد. فَتُعٌرْف السويد بالاستقرار السياسي والاقتصادي وسيادة القانون وكذلك بالديمقراطية وباحترام سكانها للحريات العامة والشخصية ولحقوق الإنسان. وتعرف السويد أيضاً بتقدمها في التعليم والتجارة والصناعة والحفاظ على البيئة والبحث العلمي المتطور. هذه العوامل تنعكس بشكل واضح على رقي مستوى المعيشية لمواطني السويد، وتوفر شبكة أمان إجتماعية لجميع فئات السكان، سوأً كانوا سويدي الجنسية أم من المقيمين في السويد. ومن جانبٍ أخر، يواجه بعض المهاجرين صعوبات في تعلم اللغة، أو إيجاد فرص عمل، أو مسكن ملائم، حيث ترتبط هذه العوامل غالباً ببعضها، فليس من المضمون الحصول على عمل دون تعلم اللغة، والحصول على مسكن ملائم دون دخل. وعادةً يحتاج المهاجر إلى سنة على الأقل لإتقان مبادئ اللغة السويدية.
فراس جنبلاط، شاب لبناني أتى إلى السويد عام 2001 من بولندا “ليجرب بناء حياة جديدة” في كيرونا في أقصى شمال السويد. ويقول فراس أنه وجد مجتمع هذه المدينة الصغيرة مرحباً به، لأنه جاء بثقافة ولغة جديدة إلى مدينة صغيرة لا يسكنها العديد من الأجانب. “الصعوبات التي واجهتني في السويد لا تختلف في نوعها عن أي صعوبات يجدها المهاجر في أي بيئة جديدة – أولاً تعلم لغة جديدة، والتأقلم مع مجتمع يختلف كثيراً عن المجتمع الشرقي، والتأقلم مع الطقس خصوصاً في شمال السويد،” ويضيف فراس إن أي مهاجر يحتاج إلى وقت وإرادة قوية ليتعلم اللغة الجديدة وليتأقلم مع مجتمعه الجديد. “بعد حوالي سنة حصلت على عمل في فندق الجليد المشهور عالمياً، وبدأت أتكلم السويدية أكثر من الانجليزية في عملي، مما سهل تواصلي مع الناس.”
ويقول فراس إنه لم يكن من الصعب الحصول على سكن في مدينة كيرونا، على العكس من ستكهولم عندما انتقل إليها بعد فترةٍ وجيزة.
صعوبة الحصول على سكن في المدن الكبيرة أمر يوجه العديد من المهاجرين الجدد. والعزيزي صلاح انتقل إلى أكثر من 8 شقق خلال فترة 5 سنوات منذ قدومه الى ستكهولم من المغرب. ويقول صلاح أنه يَسهلْ على المهاجر العربي أن يعيش ويعمل عند الغرب، ولكن سرعان ما يتعلم اللغة السويدية، فتفتح له أبواب أوسع في سوق العمل والمساكن. ويؤكد صلاح أن اللغة هي مفتاح الاندماج في المجتمع السويدي، وأن العديد ممن لا يتعلموها لا يتقدموا كثيراً في مجتمعهم الجديد. ”أكثر ما أعجبني في السويد هو رقي شعبها، واحترامهم للإنسان بغض النظر عن أصله أو دينه، إن كان بربري أو عربي أو بدوي أو مدني، مسلم أو يهودي أو غير ذلك. بعكس ما أراه في مجتمعات غربية أخرى، ولكن يصعب التأقلم مع الطقس على القادم حديثاً للسويد، وخصوصاً في البداية عندما يشعر المرء أنه غريب في بيئة غريبة لا يفهم لغتها. “
ويضيف أن العمل مهم جداً لنجاح المرء في أي بيئة، ولكن من يجتهد في عمله في السويد، يجد مستقبلاً جيداً، أما من يعمل في السوق السوداء ولا يسعى لتحسين لغته أو تعليمه فقد يتم استغلاله من أصحاب العمل.
و تركز الحكومات السويدية المتعاقبة جهودها على تسهيل اندماج المهاجرين في المجتمع السويدي من منطق أن العمل أساس النجاح في المجتمع ومن منطلق أن جميع الناس سواسية في الحقوق والوجبات وأمام القانون والسلطات، ولذلك يجب أن يحصل الجميع على فرص متساوية لتوفير الحياة الكريمة.
ويعمل مختلف المهاجرون في شتى مجالات القطاعين العام والخاص، كما يشكلون واحدة من أهم فئات أصحاب المشاريع الريادية والشركات الخاصة، والتي بدورها زادت من تنوع وتنافسية الاقتصاد السويدي محلياً ودولياً. فعلى سبيل المثال، ليس من غير المألوف أن يعالج السويدي عند طبيبة أسنان عراقية، أو أن يتعشى في مطعم لبناني، أو أن يوظف منسقة أعمال من أصل مصري، أو أن يشتري بضاعة محله من مورد مغربي، أو أن يكتب بحثه الجامعي مع طالب فلسطيني.
وتعتبر اللغة أهم عامل لاندماج المهاجر في مجتمعه الجديد بالسويد، حيث تقدم الدولة برامج تعليم اللغة السويدية مجاناً للمهاجرين الجدد. وتشجع السويد المهاجرين على الإنخراط بالحياة السياسية والاجتماعية من خلال دعم تأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب والنوادي الرياضية والفنية والثقافية، كما ترعى مساعي المهاجرين في الحفاظ على لغتهم وثقافتهم بالتوازي مع اللغة والثقافة السويدية من خلال ترجمة بعض النصوص الرسمية وتوظيف الأفراد الذين يتحدثون لغات أخرى إلى جانب السويدية و تعليم الطلاب لغتاهم الأم في المدارس. وبالرغم من توفر فرص عمل لمن يتحدثون الإنجليزية أو العربية أو غيرها من اللغات، يفتح تعلم اللغة السويدية مجالات اجتماعية وعملية واسعة لمتقنيها من المهاجرين لا تتوفر لمن لا يتعلمها. وقد وضعت الحكومة السويدية عدداً من البرامج لتأهيل المهاجرين لسوق العمل، فتقدم مراكز التعليم مثلا برامج تعليم اللغة السويدية للأطباء، أو أصحاب الأعمال، ليتعلموا المصطلحات العملية بأسرع وقت ممكن. كما تقدم الحكومة دعماً لأصحاب الأعمال الذين يدربون المهاجرين الجدد.
و تغطي سياسة الاندماج تقديم المعلومات للمهاجرين الواصلين حديثا، وتقديم الدعم للبلديات التي تستقبل اللاجئين، وتعزيز التكامل من خلال التنمية الحضرية، لتفادي مشاكل انعزال مجتمعات المهاجرين في ضواحي المدن وعدم اختلاطهم بالمجتمع السويدي، وتفادي انتشار المشاكل الاجتماعية كالبطالة في هذه المناطق، وتوسع الفجوات الطبقية مابين سكان هذه المناطق ومن ناحية أخرى ترتفع أصوات منتقدي سياسات السويد الانفتاحية على العالم، لتصل بحزب مناهضي الهجرة إلى البرلمان السويدي عام 2010.
و تسعى السويد بذلك إلى تحقيق التجانس الاجتماعي ما بين جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن الأصل والجنس والدين. ولا تزال السويد تعمل على بناء الجسور بين فئات المجتمع المختلفة لتجنب ومعالجة بعض المشاكل الاجتماعية التي ارتبطت بالهجرة كالانعزال والتمييز، ولاسيما أن المجتمع في السويد كان لفترةٍ طويلة مجتمعاً متجانساً لم يفتح أبوابه للغرباء، مما ساهم في تهميش بعض فئات المهجرين غير القادرين على الانخراط بالمجتمع بشكل سريع، أو بسبب عدم قبول بعض السويديين للتغيرات السريعة في مجتمعهم.
فبحسب رئيس الوزراء السويدي، فردريك رينفلدت، هناك فئات في السويد وخارجها تحاول أن “تنشر فكرتهم عن عدم نجاح المجتمعات المتعددة الثقافات، سعياً منهم الى تشديد القوانين وتوحيد الثقافات. مثالنا في السويد مبني على أن المجتمعات المتعددة ثقافياً هي انجح المجتمعات، فهي مجتمعات فعالة ومثيرة للإهتمام.” وبحسب وزير الاندماج السويدي، اريك اولنهاج، “لن نتخلى أبداً عن إيماننا بالسويد كدولة منفتحة ومتقبلة للجميع على اختلافاتهم….ولضمان الاندماج في مجتمعنا، علينا أن نؤهل القادمين الجدد للعمل بتعليمهم السويدية بأسرع وقت ممكن. “
وإلى جانب الخطوات الرسمية لتحقيق الاندماج والمشاركة في المجتمع، يبقى نجاح النموذج السويدي مرتبطاً بضمان الحياة الكريمة وحقوق الإنسان والفرص المتساوية، ولا يتحقق ذلك إلى من خلال تعاون جميع أفراد المجتمع على تخطي الصعوبات المرتبطة بالهجرة. فنجاح المهاجر هو من نجاح السويدي، ونجاح السويدي هو من نجاح المهاجر.
0 Comments